المقالات و البحوث من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاحتلال - التبعية)
مرت وقفتان عن الاحتلال، من حيث كونه محددًا من محددات العلاقة بين الشرق والغرب، وكانتا قد ركزتا على العلاقة بين الاستشراق والاحتلال من جهة، والتنصير والاحتلال من جهة أخرى، حتى عدت هذه المحددات الثلاثة أهم ركائز البعد بين المسلمين والغرب، بل الأبعاد بين المسلمين والغرب،ويتجاوز الحديث هنا عن التأريخ الدقيق للاحتلال والدول المحتلة.
لم يألُ الاحتلال عبر تاريخه الطويل للبلاد العربية والإسلامية جهدًا في تغريب المجتمع المسلم، بنزع الإسلام نزعًا من نفوس المسلمين؛ رغبةً في ضمان التبعية السياسية والثقافية والاقتصادية وغيرها من مناحي الحياة، التي يراد بها أن تسير بهَدْيٍ من الإسلام.
ليس المقصود هنا إلقاء اللوم على الغرب وحده في هذا، وتحميله كل ما حل بالمجتمع المسلم نتيجةً للاحتلال؛ لأن الغرب في هذا إنما يسعى إلى ترسيخ مصالحه في هذا المجتمع وغيره، ويسعى إلى إبعاد أي عامل من عوامل التنغيص لهذا الترسيخ،ويؤيد ذلك ما ذهب إليه المفكر الجزائري مالك بن نبي - رحمة الله عليه - من أن الاحتلال قد وجد قابليةً لدى المسلمين له، فربض بينهم عقودًا طويلة لم ينغِّص وجودَه إلا تلك الأصوات العاقلة التي نبهت إلى أخطاره، ودعت إلى مقاومته والوقوف في وجهه.
الذين يدرسون الاحتلال ومقاومته يعلمون أن الذين وقفوا في وجهه هم - في الغالب - المسلمون القادة الذين خلدهم التاريخ، وإن كانوا قد عانَوْا في سبيل إخراج المحتل حسًّا ورُوحًا.
وظلت التبعية للاحتلال والمحتل قائمةً حتى مع مرور عقود عديدة من السنين على أفول نجم الاحتلال،ولا تزال المجتمعات المسلمة تعاني من آثار الاحتلال التي تمثلت في وسائل شتى، منها:
أولًا: محاولة القضاء على اللغة العربية، لغة القرآن الكريم التي تربط المسلم بمقومات وجوده، وقصرها على المعابد؛ أي دور العبادة، وهي المساجد هنا، وإبعادها عن المعاهد؛ أي الجامعات والمؤسسات البحثية والمؤسسات التنموية الأخرى،ولا تزال بيننا مؤسسات علمية وتعليمية تصر على التعليم بلغة أخرى غير اللغة العربية في بلاد العرب، وهي في واقع الحال تزيد عددًا ورقعةً.
ثانيًا: السعي إلى فصل الدين عن الدولة، وإبعاد علماء الدين عن التأثير في السياسة في كثير من الدول الإسلامية، وليس بالضرورة في جميع البلاد الإسلامية، وقصر الدين على السلوكيات الخاصة والأحوال الشخصية مما يطلق عليه العلمانية الجزئية[1]، وبالتالي يتولى أمورَ الدولة أشخاصٌ ليسوا متحمسين لإدخال الفكرة الدينية في السياسة، وإن كانوا قد انطلقوا في البداية من الدين،وليس هذا مجالًا للتشهير والتشفي والنياحة، بل الأمر هنا يعمِد إلى التحليل العلمي الهادئ الذي يشخص واقعًا مَرَّ على هذه الأمة وهي تحاول الخروج منه إلى الأفضل،وربما عمدت قيادات مسلمة إلى عزل الدين عن الحياة، ليس فقط فصل الدين عن الدولة، فيما يطلَق عليه: العلمانية الشاملة[2].
ثالثًا: إبعاد الدين عن الاقتصاد، والسعي إلى زج المجتمع المسلم في نظامين اقتصاديين كانا قائمين، هما: الاشتراكية والرأسمالية، بل كلنا يذكر أن بلدًا قياديًّا من بلاد المسلمين عندما تبنى الاشتراكية جعل الإسلام هو دين الاشتراكية، وجعل محمدًا صلى الله عليه وسلم وصَحْبَه رضي الله عنهم اشتراكيين، وتغنَّتِ المغنية بأن النبي محمدًا عليه الصلاة والسلام هو إمام الاشتراكيين، ووصَف أحد الكتَّاب - غفر الله له - أبا ذر الغفاري رضي الله عنه بأنه ذلك الاشتراكي الزاهد[3]،وكتب آخر - غفر الله له - عن اشتراكية الإسلام، أو الاشتراكية في الإسلام[4]،وسعت كتابات أخرى إلى "مركسة الإسلام"[5]، و"مركسة البعثة"[6]، وإن لم تصرح بذلك،وكانت على هذا التوجه ردودٌ مختلفة، لعل أفضلها ما كتبه شيخ الأزهر عبدالحليم محمود - رحمه الله تعالى - عن الشيوعية والاشتراكية وموقف الإسلام منها[7].
رابعًا: تبني الثقافة والآداب الدخيلة، بل تلك التي سئمها أصحابها فصدَّروها إلى من تلقَّفها، ورأى فيها مخرجًا للمأزق الثقافي الذي عاشته الأمة في فترة تغييبها عن الوعي، تلك الفترة الاحتلالية وما سبقها،فظهرت على المجتمع ظاهرة الحداثة التي تبنَّت - على ما ظهر من بعض أطروحاتها - الحرب على التراث، وكان هناك صراع مفتعل بين التراث والمعاصرة، وحورب التراث في سبيل النهوض بالحداثة[8]، وأهينت أوعيةُ معلومات التراث من الكتب والمخطوطات، وصارت تدعى بالكتب الصفراء التي تعيد الناس إلى "الماضوية"، وصارت العناية بالتراث توحي بالتخلُّف والرجعية.
خامسًا: دعوة المرأة إلى التمرد على الأوضاع التي تعيشها،وهنا يدور خلطٌ بين الأوضاع السيئة التي تعيشها المرأة العربية والمسلمة بسبب تقاليد وعادات محلية لا تحترم بالضرورة المرأة، ولا تنطلق من منطلق ديني، وبين نظرة الإسلام الواضحة للمرأة، بل ربما كان هناك تعمدٌ بلصق هذه العادات والتقاليد بالإسلام، وأنه لم يعطِ المرأة حقوقَها التي حصَلَت عليها نظيراتها في المجتمعات المتقدمة، إن كانت قد حصلت عليها فعلًا، مما يعني الثورة على هذا الوضع، وتبني النموذج الغربي في التعامل مع المرأة، من دون النظر إلى سلبيات هذا النموذج على المرأة نفسها، وبالتالي على المجتمع والأمة.
سادسًا: بذر الشقاق بين المسلمين على المستويات الرسمية، بالمغالطات في رسم الحدود بين الدول، وإيجاد تداخلات فيما بينها، بحيث تبقى المنطقة في قلق دائم ومنازعات مستمرة، مما يرسخ الحاجة الدائمة إلى الآخر في فض النزاعات، واللجوء إلى التحكيم الدولي، بل النزوع إلى المؤسسات الدولية في الحكم على نزاعات نَعدها سطحية، وإن كانت العزيمة المعلنة قائمةً على التفاهم والود ونبذ الخلاف، والتلاقي عند نقاط اللقاء، وغير هذه العوامل التي يطول بذكرها المقام.
ويظل الاحتلال، برغم أفوله، عاملًا مهمًّا ومؤثرًا من محددات العلاقة بين الشرق والغرب، مما يستحق معه إطالة الوقوف مع هذا العامل الذي ترك آثارًا سلبية على المجتمع المسلم، ما يزال المسلمون يعانون منها، وقد يحتاجون إلى زمن طويل قبل الخروج من هذه المؤثرات لهذا المحدد الواحد.
[1] انظر: عبدالوهاب المسيري،العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - 2 مج - القاهرة: دار الشروق، 1423هـ / 2002م - 1: 6.
[2] انظر: عبدالوهاب المسيري،العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة - المرجع السابق - 1: 16.
[3] انظر: عبدالحميد جودة السحار،أبو ذر الغفاري: الاشتراكي الزاهد،القاهرة: دار الهلال، 1385هـ/ 1966م - ص 201 - (سلسلة كتاب الهلال؛ 178)،وانظر أيضًا: عبدالحميد جودة السحار،أبو ذر الغفاري صاحب رسول الله: مصدر يبحث "الاشتراكية في الإسلام" - ط 10 - القاهرة: مكتبة مصر، د،ت - ص 208،ويرد الدكتور عبدالحليم محمود على هذا التوجه عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - في: أبو ذر الغفاري والشيوعية - ط 4 - القاهرة: دار المعارف، 1985م - ص 87.
[4] انظر: مصطفى السباعي،اشتراكية الإسلام - ط 2،دمشق: دار المطبوعات العربية، 1379م - 425ص.
[5] انظر: منصور أبو شافعي،مركسة الإسلام - القاهرة: دار نهضة مصر، 1999م - ص 80 - (سلسلة في التنوير الإسلامي؛ 39).
[6] انظر: منصور أبو شافعي،مركسة التاريخ النبوي - القاهرة: دار نهضة مصر، 2000م - 96ص - (سلسلة في التنوير الإسلامي؛ 54).
[7] انظر: عبدالحليم محمود،أبو ذر الغفاري والشيوعية - ط 4 - مرجع سابق - ص 87.
[8] انظر: عبدالإله بلقزيز، محاور،الإسلام والحداثة والاجتماع السياسي: حوارات فكرية - مرجع سابق - ص 147.