المقالات و البحوث من منطلقات العلاقات الشرق والغرب (الاستشراق- برنارد لويس)
في سبيل التمثيل للمستشرق الذي يسعى إلى توسيع الفجوة بين الشرق والغرب، يَرِدُ الحديث عن مستشرق متطرف، هو هنا برنارد لويس، المستشرق التركي الجذور، البريطاني الأصل، اليهودي المعتقد، الصهيوني الفكر، الأمريكي الجنسية والإقامة،له إسهامات كثيرة في مجال الاستشراق، نزع في البداية إلى دراسة الفِرَق التي انبثقت عن الإسلام، فكتب عن الحشاشين، وكتب عن أصول الإسماعيلية والفاطمية والقرامطة[1]، وكتب في التاريخ الحديث كتابات ليست في مستوى البحوث التي قدمها في الكتابات التاريخية[2]؛ ذلك أن النزعة الصهيونية التي يصرح بها هو ويؤكدها بعد انتقاله إلى الولايات المتحدة الأمريكية سيطرت على كتاباته في التاريخ الحديث، فظهرت أقرب إلى الكتابات الإعلامية منها إلى الكتابات العلمية المنهجية، فكتب عن الإسلام والغرب، وعن صدام الحضارات صدى لما كتبه زميله السموءل "صومئيل" هنتنجتون، وكان العنوان الفرعي لهذا الكتاب: "المسيحيون والمسلمون واليهود في عصر الاكتشافات"، مع أنه أسبق من هنتنجتون في فكرة الصدام الحضاري هذه، وربما أن هنتنجتون أخذها عنه، وكتب عن الشرق الأوسط: ألفا سنة من التاريخ من فجر المسيحية حتى يومنا هذا.
وكتب عن الساميين وغير الساميين، ولجأ إلى تركيا، وسماها في أحد كتبه تركيا الحديثة، وجعلها في كتابه الأخير: مستقبل الشرق الأوسط، هي القوة القادمة في هذه المنطقة في العقود الخمسة المقبلة، وهي "المرشحة للعب الدور الأول مع إسرائيل في الشرق الأوسط"، خلال هذه العقود المقبلة[3].
وهو متأثر بحركة مصطفى كمال أتاتورك، التي يعدها انطلاقة تركيا الحديثة، ويعول عليها في أن تكون البدل الذي يريده، من خلال منطقه الفكري والعقدي؛ ذلك أنه يرى ما لم يصرح به، وهو أن البلاد الأخرى المشمولة في مصطلح الشرق الأوسط جغرافيًّا كلها تميل إلى تطبيق الدين في قضيتها مع اليهود في فلسطين المحتلة.
وهو لا يريد هذا البُعد أن يكون هو الدافع للتعامل مع اليهود؛ ولذا وجد في غير البلاد المجاورة لفلسطين بديلًا مناسبًا، فَهِمَ هو منه أنه سيقبل بالأمر الواقع ويتعامل مع اليهود من هذا الواقع.
وهذه هي النظرة الإعلامية التي وقع فيها برنارد لويس في إيجاد البديل؛ لأن من رشحه بديلًا ليس بالضرورة قانعًا في هذا الواقع؛ إذ تظل تركيا بلدًا مسلمًا قادت العالم الإسلامي قرونًا، ومعظمها ذات عاطفة قوية نحو الإسلام والمسلمين، لا سيما مع استقلال جمهوريات الاتحاد السوفيتي: أذربيجان وقازاخستان وقرقيزيستان وتركمانستان وأوزبكستان وطاجيكستان، وهي دول إسلامية، وجورجيا وأرمينيا وهما دولتان مسيحيتان في أغلبهما.
والدول الإسلامية الست المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق ذات ارتباط بالتركية والأتراك؛ لغة وثقافة، وارتباط آخر بالفارسية؛ لغة وثقافة كذلك، ولكنه ليس في مستوى الارتباط بالتركية.
وتظل تطلعات برنارد لويس أماني وتوقعات، جاءت في عنوان كتابه تنبؤات برنارد لويس،والترجمة العربية غير دقيقة، والأولى أن تكون توقعات؛ لأنها تناسب مقابلها الأجنبي (Predictions)[4].
وكان هذا المستشرق هو محور البحث الذي قام به الدكتور مازن بن صلاح المطبقاني، وهو بحث مستفيض، نال عليه الباحث درجة الدكتوراه من كلية الدعوة والإعلام بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بفرع المدينة المنورة، وهو حجة في أعمال برنارد لويس، فقد ذهب إليه بنفسه وحاوره وناقشه، وضاق المستشرق من الباحث،ويظهر أن الباحث قد زود المستشرقَ لويس بنسخة من بحثه الذي نشرته مكتبة الملك فهد الوطنية بالرياض باللغة العربية[5]، وإن لم يكن قد زوده بهذا البحث فإنه ربما قد حصل عليه بطريق آخر،وهو بحث جدير بالاطلاع.
وستظل الكتابات عن هذه المنطقة تترى، وكل يؤخذ من كلامه ويرد[6]، وهناك من يؤخذ من كلامه أكثر مما يرد، وهناك من يرد من كلامه أكثر مما يؤخذ، وربما أن هناك من يرد كلامه ولا يؤخذ منه شيء، إلا الأنبياء؛ فإن كلامهم يؤخذ كله ولا يرد منه شيء؛ إن هو إلا وحيٌ يوحى.
وعندما يُكتب عن المستشرق المعاصر أستاذ دراسات تاريخ الشرق الأدنى المتقاعد في جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية برنارد لويس تجد من المتخصصين في الاستشراق ومن الذين بحثوا كثيرًا في إسهامات هذا المستشرق من يَعُدُّك دخيلًا على هذا المستشرق بعينه، ولعله تدخل يرضي الباحثين المتعمقين؛ لأنه يبين مدى علمهم بالمستشرق وفكره وميوله في مقابل جهل الآخرين به ممن يكتبون عنه، لا سيما أولئك الذين قرؤوا له كتابًا أو كتابين من إنتاجه الغزير.
وكتابة لويس ممتعة، ولغته بسيطة، وتحليله ممتع لكثير من الناس الذين يلتقون معه في نظرته إلى الشرق الأدنى وشعوبه - كما يقال - ومن هنا جاء التأثر بالآخرين من الذين يكتبون عن المنطقة والدين الذي نؤمن به، والفكر الذي يُسَيِّر الناس، ويَسِير الناس من خلاله، لا سيما أولئك الذين لديهم الرغبة في التغيير، أيًّا كان هذا التغيير.
وهذا شعور ليس محدَثًا، بل هو قديم قدم هذه الإسهامات الخارجية، حتى قيل من سنين عديدة تصل إلى خمسة عقود مضت: إن المستشرقين قد فهموا الإسلام أفضل من فهم أهله له[7]، وحتى قيل: إن بعض المناطق الإسلامية ليست إسلامية الروح، بقدر ما هي أوروبية الهوى، وينبغي أن تكون كذلك،وهذا ناتج عن قراءات سريعة غير تحليلية لكتابات ممتعة في أسلوبها ولغتها بسيطة،وناتج كذلك عن قدر من الجمود في الفكر في مرحلة من المراحل التي تهمَّش فيها ما يسمى اليوم بالفكر الإسلامي.
وليس كل المستشرقين يبيِّنون ذلك في كتاباتهم وتعليقاتهم، حتى أضحى من الصعب على الباحثين في الاستشراق استخلاص هذا الانتماء الديني والفكري إلا بمزيد من تحليل الكتابات،وهذا يحتاج إلى المزيد من التخصص في الأفراد من المستشرقين على غرار ما قام به الدكتور مازن المطبقاني الذي درس برنارد لويس دراسة علمية أظهر فيها انتماءه الديني والفكري، وهذا من حقه، كما هو حق قد أعطي للمدروس، فلمَ لا يعطى للدارس؟!
ولم ينل عمل مازن المطبقاني الانتشار المتوقع له؛ لأسباب عدة، لعل منها أنه تعرض لمفكر صهيوني "محمي"،على أن هناك مفكرين "محميين" لا يصلهم النقد، وإن وصل فإنه لا ينتشر.
ومهما يكن من أمر، فإن وقفتي مع كتاب برنارد لويس الأخير مستقبل الشرق الأوسط قد أثبت في تحليلاته نقاطًا عدة، أكدت الموقف منه في توجهه إلى التاريخ الحديث ولجوئه إلى التحليل الإعلامي السريع الذي لم يكن معهودًا عنه في إسهاماته في تاريخ الشرق الأدنى،وهو بهذا يحقق من الغايات لدينه ومعتقده وفكره أكثر مما يحققه أو حققه لهما في مسيرته الأولى، وإن ضحى بسمعته العلمية وبعمق البحث العلمي، وقدر يسير جدًّا من التحليل الموضوعي.
[1] انظر: برنارد لويس،الحشاشون The Assaishns: A R adical Sect in Islam - ،London: Al Saqi Books، p 1985 - 166.
وانظر أيضًا: Betrnat Lewis،The Political Language of Isalm - Chicago: The Univcesity of Chicago، 1988 - p 168،وقد ترجمه إلى اللغة العربية إبراهيم شتا بعنوان: لغة السياسة في الإسلام - قبرص: دار قرطبة، 1993م - ص 173.
[2] انظر: Betnatr Leweis،What Went Wron: Impact and Middle Easten Response - ،London: Author، p 200 - 202،وقد ترجمه إلى اللغة العربية محمد عناني بعنوان: أين الخطأ؟ التأثير الغربي واستجابة المسلمين - تقديم ودراسة: رؤوف عباسي - القاهرة: سطور، 2003م - ص 269.
وانظر أيضًا: Bernatd Lewis،The Crsissl of Islam: Holy War and UNGHOLY terror - London: Authoe، 2003 - p175.
[3] انظر: برنارد لويس،مستقبل الشرق الأوسط: تنبؤات - بيروت: رياض الريس، 2000م - ص 140.
[4] انظر: برنارد لويس،مستقبل الشرق الأوسط: تنبؤات - المرجع السابق - ص 140.
[5] انظر: مازن بن صلاح مطبقاني،الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي: دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس - الرياض: مكتبة الملك فهد الوطنية، 1416هـ/ 1995م - ص 614.
[6] يؤثر هذا القول عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما - ونقله عنه مجاهد - رحمه الله - ونقله عن مجاهد الإمام مالك بن أنس - رحمه الله - ونقله عن مالك الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله -انظر: محمد ناصر الدين الألباني،صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم من التكبير إلى التسليم كأنك تراها - ط 13 - بيروت: المكتب الإسلامي، 1403هـ/ 1983م - ص 26 - 27.
[7] انظر: محمود محمد شاكر، رسالة في الطريق إلى ثقافتنا - مرجع سابق - ص 258.